الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره و نستهديه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له. نحمده هو أهل الحمد و الثناء فله الحمد في الأولى و الآخرة و له الحمد على كل حال و في كل آن، نصلي و نسلم على خاتم الرسل و الأنبياء نبينا محمد بن عبد الله و على آله و صحابته و من اتبع هداه و اقتفى أثره إلى يوم الدين و عنا معه بعفوك و رحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد، أيها الأخوة الكرام و الأحبة سلام الله عليكم و رحمته و بركاته، ابتداءً أقول انه ليس في هذا الدرس وصفة سحريه يمكن بتطبيقها أن تحفظ القرآن بصورة لم تكن تتخيلها أو تتوقعها، و لكن هذا الدرس فيه خلاصة تجارب عمليه وهو في الحقيقة يركز على مضمون هذا العنوان أي كيف تحفظ القرآن الكريم بصورة عامه لجميع الناس مع التفاوت الذي قد يكون يختلف فيه بعضهم عن بعض. نريد في هذا المجلس أن نركز على الإجابة على هذا السؤال، كيف تحفظ القرآن؟
و سنعرض فيه إلى خمسة جوانب:
أولا: الأسس العامة
ثانيا: الحفظ
ثالثا: المراجعة
رابعا: الروابط و الضوابط
خامسا: اختلافات و فروق
--------------------------------------------------------------------------------
أولا: الأسس العامة
أولا الأسس العامة التي لا غنى لك عنها و لا مجال لتطبيق ما بعدها إلا بها، و في غالب الظن أنه لا نجاح إلا بتأملها و تحقيقها، و هي أمور كثيرا ما نتذكرها و نذكر بها، و هي أسس ينبغي ألا نغفل عنها في هذا الموضوع و في غيره.
أولا: النية الخالصة
فنحن نعلم أن مفتاح القبول و التيسير إخلاص القصد لله عز و جل، و أن كل عمل يفتقر إلى الإخلاص لا يؤتي ثمرته و إن آتى بعض ثماره فإن عاقبته في غالب الأحوال تكون فجة و ثماره تكون مرة أضف إلى أنه يحرم من أعظم ما يتأمله المرء و هو القبول عند الله عز و جل و حصول الأجر و الثواب. فلذلك الإسلام في كل عمل لكي يسهل ويعان المرء عليه هو أن يخلص لله عز و جل.
ثانيا: السيرة الصالحة
يقول جل و علا ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ البقرة 282- ونعلم جميعا ما يؤثر عن الشافعي من قوله " شكوت الى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي و أخبرني بأن النور علم و نور الله لا يؤتاه عاصي " و نعلم ما أثر لابن مسعود رضي الله عنه " إن الرجل ليحرم العلم بالذنب يصيبه "، فنحن نعلم أن الحفظ على وجه الخصوص يحتاج إلى إشراقة قلب و إلى توقد ذهن و المعصية تطفئ نور القلب و يحصل بها التبلد بالعقل و يحرم بها العبد من التوفيق أيضا. فإذاً لا بد أن نستعين على طاعة الله بطاعة الله و أن نجعل طريقنا إلى نيل بعض هذه الأمور من الطاعات و المندوبات و المسنونات و أمور الخير أن نجعل طريقنا إليها طاعة لله سبحانه و تعالى ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ البقرة 282- نتيجة عملية تلقائية لأن القلب يشرق حينئذٍ بنور الإيمان، و النفس تطمئن إلى ما حباها الله عز و جل من السكينة و الطمأنينة فيتهيأ الإنسان حينئذٍ لهذا العمل العظيم حفظ القرآن الكريم.
ثالثا: العزيمة الصادقة
فإن المرء الذي يعتريه الوهن و يعترضه الخور و يغلب على حياته الهزل و يميل في كثير من أموره إلى الكسل فإنه لا يمكن أن يُعول عليه. و لا يُظن أنه يصل إلى النتيجة المرجوة في حفظ كتاب الله عز و جل. فهذا أمر يحتاج أن يشمر عن ساعد العزم و لا بد له أن يقلل من أمور الراحة فيخفف من نومه و يزيد من عمله و يكثر من قراءته و غير ذلك من الأمور التي لا بد لها من همه و عزيمة صادقه قوية ماضية لا تستسلم عند أول عارض من العوارض، و لا تقف عند أول عقبة من العقبات.
رابعا: الطريقة الصائبة
و هي جزء مما سيأتي حديثنا عنه، غير أني أريد أن أشير إلى أن بعض الأخوة عندما يسمع حسا على حفظ القرآن أو يتشوق إلى ذلك يبدأ بحماسة مندفعة بداية غير صحيحة غالبا ما تُسلمه إلى العجز و الكسل أو تصدمه بعدم القدرة على الاستمرار. كمن يبدأ مخلطا سورة من هنا و سورة من هنا، و جزءا منفرداً. أو مقاطع متقطعة و هو يرغب بعد ذلك أن يصل بينها و أن يصل بها إلى حفظ القرآن الكريم كاملا، فغالبا ما يتشوش مثل هذا العمل، و غالبا ما ينقطع عنه، و كثيرا ما يفتقد ما حفظ منه، و ذلك لأن الجزء الواحد أو القطعة الواحدة لا تغري المرء إذا كانت منفصلة بأن يحافظ عليها، لأنها وحدها وليس لها ارتباط بما قبلها و لا بعدها، و إن كان في ذلك خير و لا شك، و ليس في هذا الكلام ما نريد به أن نصرف أحدا أن يحفظ سورة بعينها أو بعض السور بعينها أو الأجزاء بعينها كاملة. و لكننا نتحدث عن من يريد أن يحفظ حفظاً كاملا على طريقة صائبة، و من ذلك أيضا أن بعض الناس يبدأ و يشرع دون أن يستشير و أن يسأل من حفظ قبله أو من هو مشتغل بالتحفيظ و التدريس في هذا الميدان فكما أنك تحتاج إلى المشورة في أي عمل من أعمال الدنيا أو إلى مدخل من مداخل العلوم و الدراسة التي يدرسها كثير من الناس فأنت بحاجة إلى هذا في هذا الأمر أيضا.
و من ذلك أيضا البرنامج الواضح عندما نقول أن هناك طريقة صائبة فإنها هي التي تحفظ بإذن الله تلك العزيمة التي تستمر و تمشي وتمضي عندما يكون هناك برامج و مراحل نقطة بعد نقطة، مرحله بعد مرحله. أما خطة عشواء أما أجزاء متقطعة، أما مراحل منفصلة، فإن ذلك في غالب الأمر لا يصل إلى مبتغاه
خامسا: الاستمرارية المنتجة
فهذا أمر قد يطول أمده و زمانه و قد يعظم جهده و البذل لأجل الوصول إليه، فإن كنت قصير النفس فإنك في غالب الأمر لا تبلغ الغاية، تحتاج إلى استمرار يثمر و ينتج بإذن الله عز وجل. وحديث النبي عليه الصلاة و السلام يحضرنا في هذا المقام عندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله قال أدومها وإن قل وقال اكلفوا من الأعمال ما تطيقون – رواه البخاري . فقليل دائم خير من كثير منقطع. لا تبدأ البداية الكبيرة التي قلنا عنها ثم تنقطع أو لا تبدأ ولو بداية يسيره ثم تتوقف، و كما أثر أيضا عن الأجر و الفضل الذي يكون للحال المرتحل كما سئلوا عن الحال للمرتحل قيل هو الذي يختم القرآن ثم يشرع فيبدأ به من جديد، فهنالك استمرارية و اتصال و دوام، استمرار هو الذي تحصل به نتيجة بإذن الله عز و جل.
فإذاً لابد من نية و سيرة وعزيمة و طريقة واستمرارية، هذه أسس لا بد منها قبل أن نبدأ أو أن نشرع فيما يتعلق بالتفصيل و التفريغ.
--------------------------------------------------------------------------------
ثانيا: الحفظ
الأمر الثاني الحفظ، وهو جوهر هذا الموضوع، و الحديث فيه عن الطريقة وعن الشروط اللازمة، و العوامل المساعدة، و نبدأ بالطريقة.
أولا: الطريقة
من خلال التجربة ومن خلال ما نرى من عمل كثير من طلاب التحفيظ و الحافظين يمكن أن نرى أو نلقي الضوء على طريقتين اثنتين.
الطريقة الأولى
إحداهما طريقة الصفحة، نعني بذلك أن يقرأ مريد الحفظ الصفحة كاملة من أولها إلى آخرها قراءة متأنية، صحيحة، ثلاث أو خمس مرات بحسب ذاكرة الإنسان وقدرته على الحفظ، فإذا قراها هذه المرات الثلاث أو الخمس قراءة فيها استحضار قلب وتركيز الذهن و العقل و ليس مجرد قراءة لسان فقط كلا، إنما قد جمع قلبه وفكره لأنه يريد من هذه القراءة أن يحفظ.
فإذا أتم الثلاث أو الخمس أغلق مصحفه، و بدأ يسمع صفحته، و قد يرى بعضكم أن هذا لن يتم أو لن يستطيع حفظها بقراءة الثلاث أو الخمس، أقول نعم. سيكون قد حفظ من أولها و مضى ثم سيقف وقفة، أن يفتح مصحفه و ينظر حيث وقف فيستعين، و يمضى مغلقا مصحفه، ثم سيقف ربما وقفة ثانية، أو ثالثة، ثم ليعد تسميع الصفحة.
ما الذي سيحصل !، الموضع الذي وقف به أولا لن يقف فيه ثانيه، لأنه سيكون قد نقش في ذاكرته و حفر في عقله، فستقل الوقفات. و غالبا من خلال التجربة سيسمع المرة الأولى ثم الثانية و في الغالب أنه في الثالثة يأتي بالصفحة محفوظة كاملة بعد أن يقوم بمجموع ما قرأه ثمان مرات، ثلاث أو خمس في القراءة الأولية المركزة، ثم يبدأ بالخطوة الثانية بتسميع هذه الصفحة و سيقف كما قلت بعض الوقفات في أول مرة و في المرة الثانية و في الغالب أنه في الثالثة لا يقف.
ماذا يصنع في الخطوة الثالثة، أن يكرر التسميع الصحيح الذي أتمه في المرة الأخيرة ثلاث مرات تقريبا. فحينئذ يكون مجموع ما قرأ به هذه الصفحة في ذلك الوقت تسع مرات أو أحد عشر مرة.
إذاً يقرأ الصفحة قراءة مركزة صحيحه ثلاث أو خمس مرات ، ثم يسمعها في ثلاث تجارب أو ثلاث محاولات. ثم يضبطها في ثلاث تسميعات. و بذلك سوف تكون الصفحة محفوظة حفظا جيدا متينا مكينا إن شاء الله.
ما مزية هذا الحفظ أو هذه الطريقة، مزيتها أنك لا تتتعتع أو تتوقف عندما تصل الصفحات بعضها ببعض بعد ذلك. لأن بعض الاخوة يحفظ آنفا آية منفصل بعضها عن بعض، ما الذي يحصل ؟ عند كل آخر آية يقف حمار الشيخ في العقبة، و يحتاج إلى دفعة فتعطيه أول كلمة من الآية التي بعدها فينطلق كالسهم حتى يبلغ آخر الآية التي بعدها ثم يحتاج إلى توصيلة أخرى و هكذا. أما الصفحة فهي كاللوح أو كالقالب يحفظها في قلبه و يرسمها في مخيلته، و يتصورها أمامه من مبدئها إلى منتهاها ويعرف غالبا عدد آياتها، آية كاملة صفحة كاملة بعض الصفحات آيتين وبعضها ثلاث و بعضها آيات كثيرة ليس بالضرورة تصورها و لكن هذه الطريقة تجعله ، أولا يأخذ الصفحة كاملة بلا توقف يستحضرها تصورا فيعينه ذلك على حفظها ثم يتصورها كما قلت هل هي في الصفحة اليمنى أو اليسرى، بأي شيء تبتدئ و بأي شيء تنتهي وتحكم بإذن الله عز وجل إحكاما جيداً.
تابع
V
V
V
V